قرأت فيما أقرأ أنه كان في بغداد شخص يدعي ابن بشران اشتهر بكثرة الأراجيف واختلاق الأكاذيب على الآخرين ولما أنكشف أمره ضاق الحاكم به ذرعاً فمنعه من ذلك وأنذره بأشد العقوبات إن هو عاود أراجيفه وأكاذيبه فلم يسعه إلا أن يلجأ إلي طريقة جديدة في الإرجاف والكذب فادعى معرفة التنجيم وراح يقعد على الطريق يكشف نجم هذا ونجم هذا ونجم ذاك ويمني هذا بالخير الوفير وينذر ذلك بالشر المستطير، فصوره شاعر من شعراء عصره بهذه الصورة الشعرية الطريفة:
إن ابن بشران ولست ألومه من خيفة السلطان صار منجما
طبع المشوم على الفضول فلم يطق في الأرض إرجافا فارجف في السماء
ذكرتني هذه الصورة الشعرية بأمثالها التي تطالعنا بين يوم وآخر فتخلق لخصومها من القصص والأعمال ما يمليه عليها خيالها المريض ونفسها الشريرة، وتضفي على من تحب اليوم من جميل الصفات وعظيم الأعمال ما تمليه عليها أغراضها الشخصية ومنافعها الخاصة دون اكتراث إلي أي اعتبار آخر متوهمين أن كل من يحدثونهم أصبحوا مجانين لا يميزون بين الخبيث والطيب والشرير والخير والكاذب والصادق.
والمجتمع - أي مجتمع - لا يمكن أن يخلو من هذا الصنف من زعانف البشرية وحشرات الآدمية- إن هم كالأنعام بل هم أضل حتى عصر محمد عليه الصلاة والسلام - لم يخل من هذا النوع من الناس وراحوا يريدون تعكير الصفو وتكدير الجو. حتى أنذرهم الله عز وجل بقوله: «لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورنك فيها إلا قليلا».
والمنصفون من الناس- بل العقلاء منهم- هم الذين يزنون كل كلمة يسمعونها بميزان العقل ويختبرون ما يلقي إليهم من حديث بمختبر دقيق يكشف الصحيح من الزائف، والصدق من الكذب، والمعقول وغير المعقول وإلا كانوا ضحية من ضحايا هذا الصنف من الناس فلننتبه لمثل هذا ولنحذر أمثال هؤلاء نكن عادلين في أحكامنا على الأشياء، منصفين في معاملتنا مع الناس.