منذ سنوات قريبة كان الواحد منا يأمن خادمه أو موظفه على ماله وكل ما يملك وتسير الحياة سيرها الطبيعي ويخرج الخادم أو يسافر إلى بلده دون أن يقع حادث خيانة أو اختلاس.
أما الآن فقد اعترت مجتمعنا أزمة أخلاق فقلما يجد الإنسان ضالته المنشودة من أمانة الإخلاص فيمن يعملون معه أو تحت سلطاته وعليه أن يظل دائما يقظا وأن يكون إلى سوء الظن أقرب منه إلى حسنه وهذه بعض الأمثلة البسيطة التي وقعت لي وحدي في هذا العام.
1- تقدم لي شخص يدعى سعيد على الغامدي يحمل شهادة عمل من أرامكو وشهادة كفاءة من مدرسة متوسطة وحفيظة نفوس سعودية طالبا العمل فقبلته بعد اختبار بسيط في الحساب والإنشاء واشتغل يومين فقط ثم أستأذن في الذهاب إلى الطائف لإحضار أمتعته ليستقر بمكة وطلب مني سلفة قدرها خمسون ريالا على حساب مرتبه فدفعتها له حالا وكان ذلك في يوم خميس على أن يعود صباح السبت إلى عمله.
ومضى الآن على ذلك أكثر من شهر ولم يعد ولم يحاول أن يعيد السلفة ويحاسب على اليومين اللذين عمل فيهما.
2- كان للجريدة محصل منذ أن صدرت يجبي لها حقوقها من العملاء وظل كل هذه السنوات يجبي لها مبالغ قد تبلغ في مرة واحدة عشرة آلاف ريال ولم يصدر منه ما يوجب الشك أو الريب.. ومنذ أسبوع اختفى من البلد بعد أن استولى على مبالغ لم ننته من إحصائها والظاهر منها حتى الآن نحو أربعة آلاف ريال. وهو يمني ويدعى قائد صالح نطيب ويقال أنه باع دارا كان يملكها وسافر إلى اليمن.
3- يتقدم بعض الشبان والطلاب إلى إدارة تحرير هذه الجريدة بكتابات هزيلة إملاءا وأسلوبا وأفكارا وتلمح الإدارة آثار موهبة يمكن أن تصقل فتنتج. ويقوم قسم التحرير لعملية "المكياج" في كل ذلك لينشر بالمظهر اللائق، وينخدع بذلك الآخرون فيتقدمون بعروض سخية للمحرر الجديد المبدع وينخدع هو فيتصور نفسه وقد أصبح من الرعيل الأول وينسى كل شيء.. وينسى الماضي بحذافيره ينسى كل عمليات التجميل التي جعلت من كتاباته كلاما يقرأ.. ينسى فضل الطبيب الجراح الذي عانت أصابعه ما عانت في سبيل هذا التجميل ثم يبدأ في نفخ إدراجه كالمهر يحكي انتفاخا صولة الأسد فيطالبك بأن تكون له صفحة خاصة وبابا خاصا لا يشاركه فيه أحد. وصورة شمسية له تنشر مع كل كلمة لا يلبث أن يغيرها بين حين وآخر فمرة باللباس العربي وأخرى باللباس الأفرنجي وثالثة بالنظارة ورابعة تبدو فيها ملامح الجمال أكثر وضوحا وهكذا إلخ.
فإذا ضقت ذرعا بهذا وأردت أن تكبح الجماح ونقنعه أن الطريق طويل وشاق وأن الدرجة التي بلغها لم يبلغها بجدارة ولكنها من قبل التشجيع لا أقل ولا أكثر أشاح عنك بوجهه وانتقل إلى حيث يجد المجال الأفسح من المخدوعين الذين يبيحون له نشر سحج الخول وتافه الكلام وهراء الحديث ولكنه لا يلبث أن ينكشف وتظهر حقيقته ويبدو أسلوبه الركيك، وتفكيره الفج.
إن كثيرا – ولقولها نفخر – ممن تتلمذوا على حراء وخلفها الندوة وتعلموا الكتابة والمراسلة بين جدران مكاتبها المتواضعة آثروا أن يقلبوا لها ظهر المجن بل راح بعضهم يحاربها.. لا لشيء إلا أن نظام التدريب فيها يسير على قاعدة التدرج ويأبى القفز ويفرق بين تقديم الناشئ والكاتب إلى القراء ويكبح جماح الغرور ولا يسمح أن يكون النشر وسيلة من وسائل شفاء الغليل أو النيل من الآخرين.
هذه الصور الثلاثة من صور اختلال معايير الأخلاق عندنا جعلتني أجزم أننا نمر بأزمة أخلاق حادة ينبغي على كل فرد من أفراد المجتمع أن يعاون على الخروج منها بمقت وتحقير كل صورة من هذه الصور وإهمالها حتى يشعر كل مرتكب لها أنه منبوذ محتقر وأن ننادي في مجالسنا ومجتمعاتنا في كل مناسبة بأن تصدر كل تصرفاتنا عن وحي من الأخلاق الكريمة وأن الغنى والمال يأتيان أيضا بأشرف الطرق وأكرم الوسائل وذلك خير وأبقى وأن الكذب والغش والخداع والالتواء لا يأت بشيء من ذلك بخير. وإن جاء به مرة فهو كالسراب الخادع أو سحاب الصيف الذي لا يلبث أن ينقشع.