كيف أرهب الحكم الناصري جميع مدني مصر وأدخل في نفوسهم الرعب فلم تقم أية حركة مضادة أو اعتراض أو نقد لأي عمل من أعماله المنحرفة؟!
هذا ما يجيب عليه الأستاذ أحمد أبو الفتح الصحفي المصري الحر الذي لم يستطع الحياة داخل هذا السجن الكبير الذي يسمونه مصر فآثر الغربة بعد مصادرة أمواله وممتلكاته التي من ضمنها جريدة المصري المعروفة. في كتابة (جمال عبد الناصر) الذي قص فيه قصة هذا الرئيس في نزاهة وأمانة فوفاه حقه.
يقول الأستاذ أحمد أبو الفتح بعد قصة مؤامرة الصول رأفت شلبي:
"وكانت هذه الحادثة بدء دخول أدوات التجسس على الناس ألا وهى آلات التسجيل.
ومنذ هذه الحادثة بدأ جمال عبد الناصر يهتم بآلات التسجيل فأرسل يشترى منها كل ما هو حديث، وكان من أهم هذه المسجلات، الساعات المسجلة وهي عبارة عن جهاز تسجيل صغير يوضع في الجيب الداخلي، ويتصل بسلك رفيع لساعة اليد، فإذا ما تحدث إنسان إلى من يحمل آلة التسجيل سجلت الآلة كل ما يقول.
وقد انتشرت الساعة المسجلة انتشارا غريبا بين خدم الفنادق والنوادي وعملاء وجواسيس مجلس القيادة في المصانع ودور الحكومة وبين الطلبة وبات كل إنسان يتجنب الحديث مع الآخر.
وكان في مقدمة أعمال التجسس مراقبة أعمال التلفونات فوضعت تلفونات جميع رجال السياسة حتى رئيس مجلس الوزراء علي ماهر ووزرائه وتلفونات الكثيرين من رجال الجيش والصحف والصحافة وأساتذة الجامعة و .. إلخ.
ونمت شبكة الجاسوسية نموا خطيرا في الشهور الأولى لقيام الحركة وكان أهم الوسائل التي لجأ إليها زكريا محي الدين في تنظيم جاسوسيته الاعتماد على طبقة الخدم في المنازل والفنادق وسائقي السيارات وماسحي الأحذية.
لقد اعتبر جمال عبد الناصر وجود طبقة غنية تسيطر على آلاف الأفدنة ويدين لها عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الفلاحين بنوع من التبعية خطر يهدد آماله، لذلك قرر تحطيم هذا الخطر وكانت وسيلته تحديد الملكية.
وقد استعان جمال عبد الناصر في نجاح هذا القانون على عدة عوامل، الأول حقد الفقراء على الأغنياء وثانيا جانب كبير من الملكيات الكبيرة كان في أيدي أعضاء الأسرة المالكة، وهذه الأسرة رغم وجود عدد من الصالحين بين أعضائها إلا أنها كانت في أذهان الشعب تجسم صورة الفساد والانحلال الخلقي والاستغلال.
واعتبر جمال عبد الناصر أيضا وجود أحزاب سياسية بمجالس إدارة ولجان وشعب في كل أنحاء القطر خطرا يهدد مستقبل حكمه فرسم الطريق لنسف الأحزاب السياسية.
وصدر القانون الذي يلغي وجود الأحزاب القائمة ويقضي بمصادرة أملاكها.
وبالقضاء على الأحزاب بدأ نشاط قيادة الجيش يتجه نحو عقبة أخرى من العقبات التي تعترض زحفه نحو السلطة الكاملة وهي عقبة الإدارة الحكومية واتخذ الجيش لإزالة هذه العقبة وتحطيمها كلمة التطهير فأعلن الجيش سياسته في تطهير الفاسدين والمرتشين.
وفتحت لجان التطهير مجالا واسعا للدس والوقيعة وامتد النطاق إلى تلفيق التهم وفتحت لجان التطهير الباب على مصراعيه أمام النفوس الحاقدة والمتزلفين والمنافقين.
لقد كان التطهير سلاحا مشهرا على مستقبل كل موظف في الدولة ولذلك اندفعت غالبية الموظفين تتنافس في النفاق والتجسس.
لقد كان التطهير سلاح الجيش لإفساد الأخلاق والذمم.
وفي بضعة أسابيع كان الجيش قد استبعد من صفوفه ومن الوظائف المدنية كل من هو غير مرغوب فيه.
وانتشر التطهير فامتد إلى كل مكان، المؤسسات التي تشرف عليها الحكومة والمؤسسات الخاصة، حتى النوادي الخاصة والنوادي الرياضية والنقابات.
وشهدت مصر أهوال وفواجع أخلاقية وكوارث تحل بالأبرياء الذين لا سند لهم من ضباط القيادة.
وانتشرت الفوضى تحت ستار التطهير، وبانتهاء التطهير دانت جميع دواوين الحكومة بما فيهم الوزراء المدنيون لمندوبي القيادة.
وانتصر مندوبو القيادة في كل مؤسسة عامة أو خاصة حتى شركات السينما أصبح لديها مندوبون عن القيادة.
هذه صور من إرهاب الشعب رواها الأستاذ أبو الفتح ثم روى بعدها كيف أدخل الإرهاب إلى دور الصحافة حيث قال.
وبالرغم من وجود ضابط في كل جريدة يراجع كل حرف منها فقد حدث أن نشرت جريدة الأهرام خبرا يتعلق بمواد التموين ومساء صدور هذا العدد فوجئت دار الأهرام بسيارات الجيش تحاصرها من كل مكان وفوجئ رئيس التحرير بعدد من رجال البوليس الحربي يدخلون عليه حاملين المدافع وأخذت القوة رئيس التحرير من مكتبه واقتادته إلى إدارة البوليس الحربي حيث استمر التحقيق معه إلى ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي.
ثم روي الأستاذ أحمد أبو الفتح عددا من الحوادث التي عمد إليها لإرهاب الصحفيين وتسخيرهم للعمل للثورة وإلا كانت الإهانة ودوس الكرامة أقل جزاء لهم وفي هذا يقول الأستاذ أبو الفتح، وبدأت الصحف تخشى الإجراءات العنيفة التى تقع ضد رؤساء التحرير وضد المحررين وأدى هذا الخوف إلى تدرج الصحف إلى النفاق شيئا فشيئا حتى اتخذ النفاق صورا من الفحش المنفر.
فمثلا الصاوي رئيس تحرير الأهرام كتب يصف زيارة الرئيس محمد نجيب لعزبة فقال "وما أن رأت الدواجن الرئيس محمد نجيب حتى انتفضت طربا بمقدم الرئيس.
وكتب التابعي مقالا يطالب الضباط بأن يكونوا حزبا وأن يتولوا حكم البلد.
ثم روى الأستاذ أبو الفتح أيضا مواقف لبعض الصحفيين كان عبد الناصر يتعمد القيام بها أمام الآخرين إمعانا في تحقير الصحفي أو صاحب الجريدة أو رئيس تحريرها وختم حديثه عن إرهاب الصحافة في مصر وإذلالها وتسخيرها بقوله "وتحولت الصحف في مصر إلى نشرات دعاية لعبد الناصر وزملائه الضباط وراح الصحفيون يتسابقون في إعلان الولاء والنفاق.
وانتقل الإرهاب إلى الطبقة العاملة في مصر بعد أن انتهى من إرهاب الساسة بمحاكم الغدر وإرهاب الموظفين "بموضة" التطهير، وإرهاب الصحافة بالإهانة ودوس الكرامات، فقد حدث أن وقع إضراب لعمال في مصنع نسيج في كفر الدوار وأسند التحقيق فيه إلى ضباط من الجيش وشكلت له محاكم عسكرية وتم التحقيق وصدرت قرارات الاتهام بسرعة وجرت المحاكمات وصدرت الأحكام وكان بينها حكمان بالإعدام ضد عاملين هما "خميس" و "البقري" وصدقت الأحكام ونفذ حكم الإعدام.
ونجحت هذه القسوة في إثارة الرعب في نفوس العمال ولم تقم أية حركة عمالية بعد ذلك.
وجاء دور إرهاب الجيش وقامت فرق الجاسوسية بأداء مهمتها، وعرفت الثورة ما يدور في أوساط الجيش من هرج ومرج حول خروج كثير من الضباط من أعمالهم الأصلية وانصرافهم إلى العمل في الوزارات والمؤسسات وكثر الحديث بين الضباط حول الامتيازات التي ينعم بها زملاءهم الذين تركوا صفوف العسكرية وراحوا يتولون مناصب مدنية في الوزارات وغير الوزارات.
وفجأة أعلنت قيادة الجيش عن مؤامرتين مؤامرة اتهم بها رشاد مهنا وأخرى الدمنهوري وبدأ التحقيق وصحبته قسوة شديدة تصل إلى حد الجلد والإهانة وإرهاق الأعصاب والركل بالحذاء.
وتسربت أخبار هذه التحقيقات وكانت تجمع على وسائل تعذيب وحشية استعملت ضد المعتقلين أثناء التحقيق.
وصدرت الأحكام متسمة بالقسوة فقد حكم على الدمنهوري بالإعدام مع أن كل ما صدر منه لن يزد على حديث مع زملائه انتقد فيه ترك بعض الضباط لصفوف الجندية والعمل خارج الجيش في وظائف مدنية.
ونجح عبد الناصر في إدخال الرعب في نفوس الضباط وأدركوا أن الجاسوسية متفشية بينهم وأن كل من تسول له نفسه القيام بأي عمل سيكون مصيره التعذيب والأحكام القاسية.
وهكذا أفلح عبد الناصر في نشر الرعب والفزع بين جميع قطاعات الشعب ليستمر في هذا الحكم الدكتاتوري إلى ما شاء الله دون أن يجد من يقول له : لا .