كل الذين يكتبون في نقد أوضاع الشركات عندنا - وأنا منهم غير فنيين ولهذا أخشى أن يكون لما يكتب عن الشركات رد فعل سيء وحسبنا ما تركه فشل بعض الشركات - أو كلها بتعبير أصح - في الماضي من أثر سيء في نفوس الناس حتى كفروا بشيء اسمه شركة ولم تنشأ لنا شركات أو مصانع أو مشروعات جماعية.
وأنا نفسي عندما أكتب - بدافع من شكوى المساهمين - عن بعض الشركات أتوجس أن يكون فيما أكتب مآخذ فنية تغيب على مداركي ولهذا كنت دائماً آخر من يكتب في هذه الأمور ولا أكتب فيها إلا تحت ضغط القراء الذين يلحون أن أبث شكواهم بقلمي الذين يحسنون الظن به ويتوقعون من وراء ما أكتب حلاً لمشكلتهم.
وقد قلت في الماضي أنني خسرت كثيراً من الصداقات نتيجة للقيام بهذه المهمة . مهمة التعبير عن آراء ومطالب وشكاوى الآخرين وما زالت الخسارة مستمرة.
والواحد منا - نحن الذين ارتضينا لأنفسنا هذا الوضع - يقضى أيامه في حيرة. فإذا قال كلمة الحق ونصب نفسه مدافعاً عن الحق انهالت على رأسه التهم ممن لم تكن في صالحه كلمة الحق هذه وأذنابه بأنه يريد شيئاً – وأقل شيء هو التطلع إلى عضوية الإدارة.
وإن سكت وآثر عدم حشر نفسه اتهمه الطرف الآخر بعديد من التهم أقلها الخوف والجبن وأكبرها الحرص على مصالحه الشخصية وربما كان التطلع أيضاً إلى عضوية في مجلس الإدارة أيضاً.
فهل ترى يا عزيزي القارئ أن الواحد منا لم يرض المخرج ولا راع الباب ، كما يقول العوام عندنا.
وبعد فماذا أريد أن أقول عن شركة كهرباء جدة وقد دعيت في إلحاح بكتابة كلمة عما دار في جمعيتها العمومية التي لم يكن لى شرف حضورها إذ لم أكن من المساهمين.
لقد قال لى الذين حضروها أن ما جرى فيها ما كان ينبغي أن يجرى مثال ذلك- بل أهمه – أن أحد أعضاء مجلس الإدارة طرد – والتعبير للراوي – صغار المساهمين وأمرهم بالخروج من الجلسة لأنهم اعترضوا على زيادة المنصرفات عن العام السابق مع أنهم طالبوا في الجمعية السابقة برفضها.
ومنها أن مجلس الإدارة عين أحد أعضائه مراقباً عاماً بالشركة وعندما أراد بعض المساهمين الصغار مناقشة هذا الوضع وموضوع الإسراف ثارت ثائرة بعض أعضاء المجلس وقوطع المتكلمون ورفض الاستماع إلى مناقشتهم.
ومنها عدم تخلى المؤسسين عن أصواتهم عندما جرى التصويت على انتخاب عضوي مجلس الإدارة الجديدين ليستطيع المساهمون الصغار اختيار من يمثلهم فأصبح العضوان الجديدان في حكم المعينين من قبل المؤسسين نظراً للأغلبية التي يتمتع بها المؤسسون.
وأشياء أخرى لم أحفظها عن الرواة فليس مهماً أن أسرد كل هذه القصص بل المهم أن أسأل ما هي علة العلل في الشركات عندنا؟
إنها في رأيي عدم وجود نظام عام يحدد المصالح والعلاقات بين المساهم والمؤسس والإدارة والجمهور.
إن هذا النظام إذا وضع على أسس سليمة مستوحاة من أوضاعنا لا مجلوباً من الخارج بحذافيره ولا بأس من تلقيحه بالصالح المفيد الموائم والمقارب لأوضاعنا من أنظمة الدول الأخرى.
هذا النظام هو الذي ينهى هذه المشكلة المستمرة التي أساءت في رأيي إلى الشركات وأحدثت أزمة الثقة فيساهم المساهم وهو يعرف مركزه بالضبط فلا يحاول أن يعطى نفسه أكثر من استحقاقها، ويؤسس المؤسس وهو الآخر يعرف حدود سلطانه على الشركة فلا يحاول أن يعتبرها شركة من مخلفات والده المرحوم أوقفها على بقية المساهمين فهي حسنة إن شاء منحها وإن شاء منعها.
وإذا كانت لي كلمة قبل ختام هذا الكلام فإنه بمناسبة أن نظام الشركات يجرى درسه الآن تمهيداً لإصداره فإني أوجه الأنظار إلى ضرورة الحد من أصوات المؤسسين وعدم مساواتها برأس المال فقد أثبتت التجارب أن إعطاء المؤسسين 51% أو أكثر من الأصوات بنسبة رأس مالهم أوجد شيئاً من الاستبداد في عدم الاكتراث بالمعارضة مما أدى إلى هذه المشاكل التي نشكو منها الآن.
سيقول لي معترض أن أصحاب رءوس الأموال الكبيرة سيحجمون عن تأسيس الشركات إذا لم يكن لهم هذا السلطان المطلق وجوابي عليه أن الثقة مفقودة بالشركات التي يملك مؤسسوها السلطان المطلق أيضاً فنحن إذن بين أمرين أحلاهما مر فليكن التشريع في نظام الشركات وسطاً يضمن مصلحة الطرفين ويحافظ على العلاقة بينهما في ود وتعاون إذ أن قيام الشركات من وسائل النهوض، والنهوض بالبلاد واجب مشترك على كافة الطبقات وليس مطلوباً من الصغار دون الكبار أو الكبار دون الصغار فالكل مطالب بأن يسهم بطاقته ومقدوره.
ومثل ما وقع في شركة كهرباء جدة وقع في مؤسسة وطنية كبرى أخرى آثرنا عدم التحدث عنها لأن موضوعها حساس جداً نرجو من أصحابها معالجة مشكلتهم بالسرعة الممكنة فإن ما حدث لم يسر ولن يسر المخلصين.
ضربني وبكى:
من الحكايات التي أذكر معناها ولا أذكر نصها بالضبط أن شخصاً جاء إلى حاكم وإحدى عينيه مقلوعة، يشكو قالعها إلى الحاكم فاستدرك عطفه واستثار شعور الرحمة فيه فالتفت الحاكم إلى مستشاره قائلاً:
مسكين. ألا ترى أنه مظلوم وإن خصمه يستحق الجزاء؟!
وكان جليسه حصيفاً بعيد النظر فأجابه:
تريث يا مولانا واستدع خصمه لنراه فربما قلعت عيناه.
ومن ذكرياتي في القضاء ما كنت أسمعه من أحد الخصمين عندما يلقاني على انفراد فيقص على قضيته بل شكواه أو ظلامته فأتصوره مظلوماً مغلوباً على أمره، فإذا ما لقيت خصمه وسمعت القصة منه بل الدفاع تبينت مدى قوة اللجاج عند بعض الناس وإلباسهم للأمور غير لبوسها وإضفائهم على الباطل مسوحاً من الحق والعدالة حتى ليخيل إلى السامع أنه الحق ولا شيء غير الحق.
وأذكر في هذا حديثاًَ نبوياً أيضاً لا أحفظ ألفاظه وهو قوله عليه الصلاة والسلام: أنكم تختصمون إليّ فأحكم على نحو مما أسمع ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن حكمت – له بمال من حق أخيه فإنما اقتطع له قطعة من النار – أو كما قال: عليه السلام.
وهكذا أصبحت لا أؤمن بما يقول قائل في آخر ولا أصدق دعوى على أحد حتى استمع إلى كلام هذا الآخر وهذا الأحد ووجهة نظره ولا أتأثر ببكاء المتباكين ولا ضجيج اللجوجين. بل يكاد يكون اللجاج وكثرته مدعاة عندي للتريث والترفق.
فهل أراني على حق؟!
أرجو ممن يرى رأيي أن يتخذه مبدأ فلا محكوم لمقلوع العين حتى يرى عيني غريمه ويتأكد من سلامتهما، ولا يغتر بدموع ذابح العصافير التي قد يسيلها الغبار أو طرفة العين من قذى حتى ينظر ماذا تعمل يدا هذا الذابح.
وبعد هل بلغت؟!
اللهم أشهد...
صالح محمد جمال