في رمضان يصبح الحديث ذو شجون شتى فإذا أراد الإنسان أن يتحدث عن التربية النفسية وأثر شهر رمضان فيها وجد فنوناً من القول. وفي رمضان أنزل الله القرآن هدى للناس وبينات من الهدى، والحديث عن القرآن وأثره في ازدهار الحضارة الإسلامية وتخلفها ازدهارها يوم كان المسلمون متمسكون بتعاليم القرآن والسير على هداه، والتخلق بأخلاقه في معاشهم وسعدهم. وتخلفها يوم أعرض المسلمون عن كتابهم وانصرفوا عن تعاليمه إلى ما زين لهم الشيطان من قوانين ودساتير أوقعهم فيما وقعوا فيه من تخلف عن ركب الحضارة بعد أن كانوا قادتها وسادتها. وفي رمضان وقعت غزوة بدر الكبرى التي أنتصر فيها المسلمون الأولون وهم قلة على المشركين وهم كثرة ولم يتجاوز شهداء المسلمين الثلاثة عشر – إن لم تخني الذاكرة – وتجاوز قتلى المشركين السبعين.. أنتصر المسلمون يومئذ وهم قلة لإيمانهم الصادق بعدالة قضيتهم ووحدة قلوبهم ظاهراً وباطناً وخذلوا الآن وهم كثرة ولكنهم غثاء كغثاء السيل أمام أضعف عدو وأذل خصم لفقدهم ذلك الإيمان أولاً ثم اختلاف ظاهر أكثرهم عن باطنه. ورمضان هو شهر الصوم عند المسلمين ويظن بعضهم الصوم عن الأكل والشرب فقط ويبيحون لأنفسهم كل ماعدا ذلك مع أن الصوم لم يشرع إلا لترويض النفس على الصيام عن كل شيء.. عن الأكل والشرب.. وعن الفحش والظلم.. عن الغيبة والنميمة عن الكلام الفارغ واللغو.. كما يفهمه البعض الآخر على أنه تجويع للبطن وتعطيش للحلق لمجرد التجويع والتعطيش.. غافلاً عن الحكمة الأصلية من هذا التجويع والتعطيش فالصيام - كما لكل شعيرة من شعائر الإسلام - مرامي بعيدة فالصيام مدرسة كبرى يتعلم فيها الصائم كيف يصبر على المكاره راضياً غير جزع ولا هلع شاعراً براحة نفسية لا تعادلها راحة. ومدرسة يتعلم فيها الصائم الحلم وكريم الأخلاق وكيف يلقى إساءة من أساء إليه بالغفران بل بالإحسان فمن آداب الصوم أن يقابل الصائم من شاتمه أو أذاه بقوله إنى صائم.. إنى صائم.. ومدرسة يتذوق فيها الصائم طعم الحرمان. وألم الجوع. وحرارة العطش. وكبت الشهوة فيرق قلبه للجائع ويحن للظامئ ويعطف على المحروم فيشرك هؤلاء فيما من الله عليه به من فضل ويحسن كما أحسن الله إليه.. ومدرسة يتعلم فيها العصاة والمتكبرون الطاعة التامة فلا أبلغ من هذا الدرس.. درس جلوس الصائم حول مائدة الإفطار جائعاً ظامئاً والطعام الذى يشتهيه بين يديه والماء البارد أمام عينيه ويمتنع بطوعه واختياره عن سد جوعه وبل ريقه انتظاراً لآذان الله بغروب الشمس. وفي رمضان جائزة كبرى لا تقدر بثمن ولا يلقاها إلا الذين صبروا ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم..هي - جائزة ليلة القدر.. ليلة فضل العبادة فيها كألف شهر جائزة تدفع المسلم للعمل الصالح دفعاً وتحثه على خير العمل الصالح حثاً وتمضى به في طريق كله نور فيظل منذ أوائل الشهر يترقبها فلا ينتهي إلا وقد امتلأ قلبه نوراً. ثم ينتهي رمضان بالعيد.. العيد الذي يتزاور فيه الناس وخاصة الأقارب ويتصافحون وقد طهرت قلوبهم وزالت ضغائنهم وصفت نفوسهم فيلقى بعضهم بعضاً فرحين مبتسمين.. كل هذه الخواطر تساور الإنسان عندما يبدأ رمضان فلا يدرى بما يبدأ الحديث وسأتحدث اليوم عن الغضب في رمضان وكيف يتغاضب بعض الصائمين معللاً ذلك بأن الصوم من مثيرات الغضب ومنرفزات العصب مع أن الأمر بخلاف ذلك تماما بل بالعكس: يستيقظ أى احد من هؤلاء في الصباح المتأخر متجهم الوجه مقطب الجبين منتفخ الأوداج. فإذا صاح الأولاد أو لعبوا شخط فيهم ونفخ ورفع العصا ثم قال إنى صائم.. وإذا كثرت الزوجة الكلام - وما أكثر كلام النساء - خبط الأرض برجليه ورفع عقيرته وهدد وأوعد وأرعد وأزبد وقال إنى صائم.. وإذا خرج إلى السوق فباع وأشترى وتخلل ذلك شيء من الجدال المعتاد تحامق وتغاضب وزمجر ونفش شعره وهز رأسه وقال إنى صائم.. أما بعد العصر ولا تسل عن حاله بعد العصر فإن درجة الحرارة- حرارة الغضب - طبعاً ترتفع كثيراً حتى لا تكاد تطاق فإن أقل إثارة كفيلة بأن تقلب القدور وتكسر الصحون وتلقى الطعام وقد تسفر عن معركة حامية تستعمل فيها قاذفات الصحون والملاعق. وقد قدمت في أول الحديث أن من آداب الصيام قوله إني صائم وهي من حديث طويل أخرجه البخاري عن أبى هريرة يقول فيه عليه الصلاة والسلام (الصيام جنة فإذا صام أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وإن امروء قاتله أو شاتمه فليقل أنى صائم). هذه هي الصورة التي رسمها الإسلام للصائم الحق وشتان بينها وبين تلك الصورة الشوهاء التي يعطيها بعض الصائمين عن نفسه.. فيا سادتي الصائمين. إن الصوم جنة ووقاء ومن صام كان لزاماً عليه ألا يرفث ولا يفسق ولا يجهل. وإن جهل عليه آخر فليغفر وليتحالم وليقل إني صائم.. جعلنا الله جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وهدانا جميعاً صراطه المستقيم..